وجه الرئيس الأفغاني حميد كرزاي مناشدة للعاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز، بضرورة التدخل المباشر للتوسط وإنهاء الصراع الدائر في أفغانستان منذ عدة أعوام وجلب حركة "طالبان" للانخراط في العملية السياسية، وتسليم عناصرها للسلاح بعد نزولهم من الجبال. ولولا يقين الرئيس الأفغاني وثقته بالدور المؤثر والناجع للمملكة في قدرتها على إنهاء هذا الصراع الدموي لما وجه مثل هذه المناشدة من منبره اللندني، وفي كنف أكثر من سبعين دولة ومنظمة يحضرون مؤتمر لندن ذو الصلة بأفغانستان الخميس الماضي، ومن بينهم الدول العظمى، التي يتواجد جنودها على أرض بلاده في محاولة منهم لفرض الأمن والاستقرار منذ سبعة أعوام دون جدوى! للمملكة العربية السعودية خبرة كبيرة ودراية واسعة بأطراف المستنقع الأفغاني وأعماقه، وعقدت الرياض عدة مؤتمرات خاصة بالمصالحة بين الفرقاء الأفغان مثلهم مثل غيرهم من أطراف الصراعات الكثر في أنحاء البلاد الإسلامية، ولكن دون نتائج إيجابية على الصعيد الأفغاني مع بالغ الأسف! اجتمع عدد من أمراء الحرب الأفغان في عقد التسعينيات، وعرف هذا الاجتماع بمؤتمر القبائل الأفغانية، وعقد هذا المؤتمر في مدينة مكة المكرمة في عهد الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله، حضر فيه كافة الزعماء الأفغان، وصاغت السعودية الاتفاق الذي مهره كافة المؤتمرون بتواقيعهم تحت أستار الكعبة! وأقروا فيه تأكيدهم على إنهاء الحرب الدائرة بينهم، وإلقاء السلاح، وتشكيل الحكومة من ائتلاف بين المتحاربين، وحين عادوا إلى بلادهم، لم يلقوا السلاح بل زادت وتيرة تذخيره، وحَمي الوطيس بين الأشقاء الأفغان لأمر لا يُعرف من المستفيد منه، وأصبح الاتفاق والعهود بين "المؤمنين" حبراً على ورق. لم تغلق السعودية الباب في وجه هذه المناشدة الجديدة الآتية من الأفغان أنفسهم، وعلى لسان رئيسهم المنتخب، رغم تحفظي على الانتخابات التي جرت وما أثير حولها، إلا أن الرياض اشترطت عدة شروط يجب أن تتوافر لقيامها بدور الوسيط الواثق من قدرته على النهاية الإيجابية لوساطته المأمولة. قالت السعودية على لسان وزير خارجيتها الأمير سعود الفيصل إن هذا الطلب لابد أن يقدم بشكل رسمي من أفغانستان، واعتقد أنها لن تكترث لمجرد مناشدة عبر منبر دولي، فهناك طرق وقنوات دبلوماسية يجب أن تتبع في العلاقات الدولية. إضافة إلى ذلك اشترطت السعودية أن تؤكد "طالبان" على حضورها هذه المفاوضات، واثبات الجدية في ذلك، وتقديم ما يضمن تنفيذ ما تفضي له المفاوضات، وليس لمجرد تسجيل مشاركة فقط، فقد سبق هذه المناشدة من قبل الرئيس الأفغاني واحدة قبل عامين وجهها إلى السعودية أيضاً، واجتمع الأفغان من فريق كرزاي، وتردد حينها أن شقيق الرئيس هو الذي ترأس وفد الحكومة، وآخرين من "الطالبانيين" السابقين، وفي مكة المكرمة أيضاً في شهر رمضان، ولكن الأمر لم يفسر إلى الآن، قلل "الطالبانيون" السابقون الذين شاركوا في ذلك الاجتماع من أهميته، ووصفوه بأنه مجرد مناقشات عادية جمعتها الصدفة على مائدة إفطار رمضاني. ما يضمن جدية حركة "طالبان" أفغانستان في الاتجاه للعمل السياسي وإلقاء السلاح، هو قطع علاقتها مع تنظيم "القاعدة"، لكي يستطيع المجتمع الدولي تقبلها مجدداً، وتقبل مشاركتها في حكومة أفغانية تستطيع أن تقوم بالعمل على تنمية بلادها بعد ما خصصه لها مؤتمر لندن بمبالغ تجاوزت النصف بليون دولار. وهذا الأمر أكدت عليه الخارجية السعودية في بيانها حول مناشدة كرزاي، إذ قال البيان"إن إثبات رغبة "طالبان" في السلام والنية الصادقة لتحقيقه يبدأ بقطع "طالبان" علاقتها مع المتشددين، والتوقف عن توفير الملاذ الآمن لأسامة بن لادن". وفي الشروط السعودية من العقلانية والحكمة الشيء الكثير، فليس من المعقول أن تتوسط بين طرفين أحدهما يدعم ويؤوي أعداء المملكة الذين فجروا وقتلوا على أراضيها ومن مواطنيها، وما زالوا يحيكون ضدها المؤامرات. كانت السعودية إحدى ثلاث دول اعترفت بنظام "طالبان" حين إعلانه عن توليه الحكم في أفغانستان، ولكن تحول "طالبان" إلى مضيف للإرهابيين وتحويله الأراضي الأفغانية إلى مقار لهم، جعل من المجتمع الدولي وفي مقدمتهم السعودية يقطعون علاقاتهم مع هذه الحركة، ويحضونها على قطع العلاقة مع تنظيم "القاعدة"، ونشطت السعودية في ذلك قبل أحداث 11 سبتمبر عام 2001، رغم مواجهتها لتعنت "طالباني" للدرجة التي وصفت قيادة "طالبان" حينها عناصر "القاعدة" بأنهم في حكم الضيوف على البلاد الأفغانية! إلا أن ما حدث أن أفغانستان احتلت بسبب ما فعله وما زال يفعله أولئك "الضيوف" وانطلاقاً من دار ضيافتهم تلك. يجب على "طالبان" أفغانستان استغلال الوضع الدولي الراهن بالطرق الايجابية، واستثمار اندفاع تلك الدول تجاه جر الحركة المسلحة إلى الانخراط في العملية السياسية، فلا اعتقد أنها ستحين فرصة لتلك الخطوة أكثر مما هي سانحة الآن، وما رأيناه في الأيام القليلة الماضية من انعقاد لثلاثة مؤتمرات خاصة بأفغانستان فقط، إلا تأكيداً على أن الفرصة متاحة، ويجب الرد عليها باللغة السياسية على طاولة المفاوضات، وليست بلغة السلاح، فلم يبق على أرض أفغانستان شبر واحد إلا وتخضب بالدم، سواء من المواطنين الأفغان أو من غيرهم. اعتقد أن الدور السعودي الجديد، هو بمثابة الضوء في نفق بلاد الأفغان المظلمة منذ عقود مضت، فإما أن توافق "طالبان" على دور جديد للسعودية وتنفذ شروطها، وإما أن يبقى عناصرها مطاردين في الجبال، ولا يتقن المواطنون الأفغان من وراء هذه المطاردة المستمرة إلا شيئا واحدا فقط، وهو حصر أعداد القتلى من الطرفين، والتفنن في تأبينهم، على أنقاض البلاد. أخيراً، ما توصل إليه حضور مؤتمري لندن الخاصين باليمن، وأفغانستان، هو نتيجة طبيعية للتأكيد على أن السلام وإنهاء النزاعات المسلحة منتج سعودي خاص، لا يُتقن صُنعه إلا في المملكة العربية السعودية؛ فهل في الجوار من يعي هذا الإجماع الدولي على هذا المنتج الذي آن الأوان لإعادة استثماره، ولن أقول تم اكتشافه.